هى المرأة اللبنانية العابرة للطوائف.. والعابرة للطائفية فى وطنٍ طائفى بامتياز!
تماسك الوطن بفضل صموده وصمود شعبه فى وجه الحروب الطائفية والتطاحن، وساعده احتضان السيدة العذراء له فى منطقة «حريصة» على البقاء على قيد تلك الحياة حتى الآن.. فبركة مريم البتول هى من تنقذ لبنان دومًا.. وحب اللبنانيين للحياة والتشبث بها والانتصار لها ساعد أيضًا فى هذا الصمود؛ حتى وإن لم يستطع هذا الشعب العظيم الانتصار لنفسه أو لبلده الصغير الجميل الاستثنائى.
أرزة هى مثال حقيقى للمرأة اللبنانية بعيدًا عن عمليات التجميل والمبالغة فى ارتداء الملابس الفارهة، وكل ممارسات التصنع البلاستيكى التى اشتهر بها ذلك الوطن المطعون لسنوات طويلة.. فأرزة لبنان الحقيقية الأصيلة هى التى حملت على كتفيها هموم وشئون وشجون لبنان منذ السبعينيات؛ حتى توقيت صناعة هذا الفيلم.
أرزة هى الرمز الحقيقى للبنان الصامد الشامخ، الذى يعانى ولا تستطيع عمليات التجميل التخفيف من معاناته.. فاسم بطلة العمل كان موفقًا جدًا فى التعبير عن موضوعات تخص الهوية والجذور والانتماء، وغزل ذلك فى إطار قصة إنسانية تمس القلوب وتعكس صراع الإنسان مع ماضيه وحاضره، وقلقه الدائم بشأن مستقبله.. فكان الفيلم لوحة فنية إنسانية تعبر عن علاقة الإنسان بأرضه وواقعه بأسلوب شاعرى يمزج بين الواقع والخيال.. فالعلاقة بين الفرد وأرضه ومجتمعه وثقافته علاقة شائكة ومعقدة، تم سردها بأسلوب شاعرى عبر عنحال لبنان الذى مزقته الحروب ومزقه ملوك الطوائف.. فالطائفية فى لبنان هى الجرح الغائر، وهى معول الهدم الحقيقى لكل ما هو جميل وأصيل فى بلد جميل وأصيل.
مخرجة العمل اللبنانية الشابة «ميرا شعيب» فى فيلمها الروائى الطويل الأول، قدمت عملًا مميزًا يجمع بين السخرية الحادة «المضحكة المبكية»، وواقع مأساوى يسلط الضوء على تعقيدات الحياة اليومية فى لبنان، حيث تتداخل الأحلام البسيطة مع العقبات الكبرى، وتتحول القضايا السياسية والطائفية إلى عوامل مؤثرة فى تفاصيل تلك الحياة وفى حيوات شخوصها.
يعكس الفيلم عبر عناصره البسيطة صورة مألوفة عن واقع ملىء بالمفارقات؛ لذلك نال الفيلم جائزتين فى ختام الدورة الـ٥٤ لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى.. الجائزة الأولى كانت جائزة «يوسف شريف رزق الله» لأفضل سيناريو للكاتبين «لؤى خريش» و«فيصل شعيب»، بجانب جائزة أفضل ممثلة لدياموند بوعبود التى استحقت حقًا تلك الجائزة وعن جدارة.
فالمخرجة اختارت سيدتين، إحداهما «أرزة» التى تحمل فوق كاهلها أود إقامة حياة أسرتها لتستمر الحياة.. فهى المرأة الضعيفة قليلة الحيلة والقوية المستقلة فى ذات الوقت التى ترعى شئون نفسها بنفسها دون مساعدة من أحد، بل ترعى كذلك شئون شقيقتها «ليلى» التى أصابتها تروما بعد رحيل زوجها، وقامت بتنشئة ابنها الوحيد بمفردها بعد غياب الأب، واختارت له اسمًا لا يعبر عن أى «طائفة»، كما كان اسمها معبرًا عن لبنان ذاته ولا شىء سوى لبنان.
طوال أحداث الفيلم نشاهد مواقف لها علاقة بالطائفية والاستقطاب الذى تمارسه تلك الطائفة مع أبنائها ضد الطوائف الأخرى.. فنرى «أرزة» وهى ترتدى تارة لباس أهل السنة فى لبنان، ثم لباس أهل الشيعة وهى تتحايل على أحوال المعيشة، كما ارتدت ما يرتديه المسيحيون كى لا نعرف ديانة «أرزة» أو ديانة أسرتها حتى نهاية الفيلم، وكان ذلك مقصودًا فى الفيلم وفى السيناريو.. فأرزة وأسرتها هم اللبنانيون، هم أصحاب الأرض وأصحاب الوطن الواحد.. الوطن الموحد غير الممزق.. بلا طائفية وبلا فوارق.. «أرزة» هى الأم العزباء التى تكافح لتأمين حياة كريمة لها ولابنها المراهق «كنان»، «يقوم بالدور الممثل السورى بلال الحموى»، فكنان هو الفتى الضال العنيد الفاقد للهوية والفاقد لأى أمل فى غدٍ أفضل، ويتذمر دومًا من ظروفه المحيطة رغم أن فى أعماقه تدفقًا كبيرًا للحياة والرغبة فى السفر والهجرة للخارج، ولديه كذلك نهم كبير لحب ابنة الجيران «هذا الحب العذرى الجميل» الذى كان الشىء الوحيد الذى ينفث فيه «كنان» من إحساسه بالظلم والتعاسة الدائمة، بينما تعمل «أرزة» فى إعداد وعجن الفطائر داخل منزلها المتواضع وتبيعها للزبائن، فهى لا تملك رفاهية المغامرة، كما لا تملك رفاهية اللا مبالاة، إنها تفكر فقط فى اليوم، فى اللحظة، فى الساعة الآنية، ولا تستطيع ترك الفطائر الساخنة حتى تبرد ويتذوقها أفراد محدودون من سكان الحى الذى تسكن فيه.. فأيقنت أنه لا مفر من التحديات القاسية التى يفرضها ضيق العيش، فلا عجانة كهربائية تسهل عملها فى عجن الفطائر، ولا وسيلة نقل مريحة لتوصيل الطلبات مع المحافظة على طزاجتها وسخونتها، خاصة بعد ملل ابنها من تنفيذ المهمة سيرًا على الأقدام، بالإضافة إلى عدم امتلاك وسيلة تسويقية لتوسع مصدر رزقها، فخطر فى ذهن «أرزة» فكرة شراء دراجة نارية لتلبية عدد أكبر من الطلبات.. ولم تجد سبيلًا لتحقيق ذلك سوى رهن سوار ذهبى لأختها ليلى مقابل بضع مئات من الدولارات تقدمها دفعة أولى لشراء الدراجة بالتقسيط؛ رغم أن ذلك السوار هو آخر ذكرى متبقية لشقيقتها من زوجها الذى تعيش على أمل أو «وهم» عودته، وتتزين له يوميًا بأحلى الثياب وأفضل مساحيق التجميل!
وبالفعل تشترى أرزة الدراجة فى عيد ميلاد «كنان» الثامن عشر كهدية له وكوسيلة لتوصيل أكبر عدد ممكن من الطلبات يوميًا للزبائن.. لكن الابن يصارحها بأنه لا يرغب فى دخول الجامعة ولا يرغب فى توصيل الطلبات، وأن غايته هى السفر للخارج سعيًا لمستقبل أفضل مثلما فعل والده من قبل.
وفى رحلته لتوصيل الطلبات، وبينما يحتفل مع حبيبته وأصدقائه بعيد ميلاده تُسرق دراجته!، وتبدأ أرزة وكنان رحلة غير محددة الوجهة بحثًا عن تلك الدراجة؛ ليتنقلا خلال تلك الرحلة بين معظم مناطق بيروت.. وبالتالى تتحول رحلة البحث البائسة عن الدراجة تلك إلى بانوراما واسعة للتباين الطائفى فى بيروت ولبنان، تبرز خلالها نظرة كل طائفة للأخرى وحالة التشكيك وعدم الاطمئنان داخل المجتمع الواحد، ويتنقل الثنائى من منطقة مسيحية إلى أخرى سنية إلى ثالثة شيعية، وفى كل بقعة لا يكون الحال أفضل من سابقه.
وبينما تسير «أرزة» فى طريقها إلى إحدى المناطق المعروفة بالاتجار فى الدراجات النارية المسروقة تتعرض هى للسرقة، ما يزيد الأمور تعقيدًا، لكن ذلك لا يثبط عزيمتها فتقول: «كل حياتى والناس تاخد منى، ما راح خليهن هالمرة» إلا أن البحث لا يكلل بالنجاح هذه المرة أيضًا!
وتكمل أرزة رحلة البحث عن الدراجة، لكنها تتلقى اتصالًا تعلم عن طريقه أن أختها اختفت ولا أثر لها، فتبحث هى وكنان عن ليلى حتى يجدانها عند أنقاض البيت الذى كان لها وزوجها الغائب.. ويعود الجميع إلى منزل «أرزة» وكأنهم يعودون للبنان بعد الشتات!، ويبدو أن «أرزة» قد استسلمت للواقع وتوقفت عن البحث، لينتهى الفيلم و«أرزة» تقود دراجتها البخارية بنفسها بعد استعادتها بالحيلة.. فما سرق منها استردته بطريقتها الخاصة حتى وإن كانت تلك الطريقة التى استردت بها ما تملكه طريقة عشوائية لا علاقة لها بالقانون.. ففى ظل غياب القانون وفى ظل غياب العدل وغياب الدولة، يكون كل شىء مباحًا!
وتحمل الموسيقى التصويرية فى الفيلم المتدفق الدافئ البديع ملامح موسيقى شعوب البحر المتوسط.. فنجدها ملائمة للطابع الموسيقى اللبنانى والمصرى، بل اليونانى والإيطالى أيضًا التى كانت عنصرًا مهمًا فى الفيلم، وكان لها دور مهم فى منحه مذاقًا خاصًا.. موسيقى الفيلم كانت من تأليف الفنان المصرى «هانى عادل»، الذى فاز بجائزة أحسن موسيقى مؤخرًا فى فعاليات مهرجان قرطاج ٢٠٢٤.









